تتحدث مي جاه الله في هذه المقابلة—وهي مصرية نوبية ورائدة أعمال مجتمعية—عن حياتها ومسارها المهني الطويل والمتنوع، وأيضًا تجيب عن أسئلة عامة حول الأعمال والجندر، ونشأتها وتربيتها كامرأة نوبية، وأيضًا عن النوبة والتهجير.
بدأت رحلة مي مع العمل المجتمعي في سن مبكرة، حيث كانت تحب التطوع وتمارسه أثناء دراستها بالمدرسة. كانت أيضًا تحب التجارة في هذه السن المبكرة جدًا، فكانت تبيع ألعابها ومجلاتها القديمة في النادي الذي كانت ترتاده. في المرحلة الثانوية، بدأت تتواصل مع عدة مؤسسات دولية، مما سمح لها بالسفر إلى ما يقرب من واحد وعشرين دولة، حيث تقضي فترة الصيف في التدريب والتعلم. لم تكن مدركة حينها معنى مصطلح “ريادة الأعمال المجتمعية”. شغلت منصب مراقب مكافحة غسيل أموال وتمويل إرهاب في بنك “نيويورك ميلون”، ولكنها حافظت على عدد الساعات الذي تقضيه في التطوع. أخذها اهتمامها بالأعمال إلى طريق فريد، وهو تجارة المواشي، حيث عملت في مجال تجارة المواشي بجانب عملها في البنك، وهذا يدل على تنوع المجالات التي عملت بها مي. يومًا ما قررت مي أن تتوقف عن العمل في البنك والعودة ثانية لمجال التنمية بدوام كامل، لشعورها أنها لم تقم بأعمال كافية لتنمية المجتمع كما تريد.
قررت مي حينها أن تسافر إلى مجموعة كبيرة من القرى والنجوع في مختلف محافظات مصر، ولكنها عادت بخيبة أمل، فقد لاحظت أن الناس كثيرو الشكوى وقليلو العمل. لأنها نوبية الأصل، قرّرت أن تبدأ رحلتها في النوبة، وهناك أسست مؤسسة “كنوز نوبية”، والتي تعني بإحياء التراث النوبي الثقافي الثري. تزوجت مي، وأنجبت ابنها الوحيد نوح، والذي كان رفيقها في كافة أنشطتها. تتحدث مي باستفاضة عن مشروع “كنوز نوبية”، وعن بيئة العمل التي حاولت أن توفرها للعاملات، وهي بيئة عمل مريحة، وملائمة للأمهات، حيث سمحت للنساء اللواتي أردن إحضار أطفالهن بإحضارهم مثلًا. ترى مي في ريادة الأعمال المجتمعية التوازن المطلوب بين تحقيق ربح يساعد على استمرار العمل وخدمة المجتمع. لم تدعم مي ثورة 25 يناير، لإيمانها أن المشكلة لم تكن أبدًا مشكلة حكومات، بل مشكلة بشر كثيري الشكوى.
تؤكد مي أن عائلتها كانوا أكبر داعميها في مساراتها المهنية المختلفة. ربما حاولوا إثنائها نوعًا ما عن ترك العمل في البنك، وكان هناك نوعًا من الاعتراض أيضًا على تجارتها في المواشي، ولكنهم يدركون أنها ستفعل ما تريد في النهاية. زوج مي الحالي أيضًا من أكبر داعميها، وكذلك ابنها الوحيد.
كان الفكر الذكوري المصبوغ بصبغة دينية من أكبر التحديات التي واجهتها مي في حياتها العملية، خاصة أثناء عملها في الصعيد، فتروي قصة طريفة حول ضغط المجتمع المحلي حولها عليها لارتداء الحجاب، فبدأت ترتدي عمامة الرجال لتغطية شعرها، حتى بدأوا هم بأنفسهم يطلبوا منها أن تتوقف عن ذلك لأنه “عيب” على المرأة أن ترتدي عمامة الرجال، حتى توقفوا عن مطالبتها بتغطية شعرها. كانت نظرة المجتمع المحلي أيضًا للمرأة التي تعيش وحدها، وغير متزوجة، أو حتى مطلقة تحديًا واجهته مي، حيث تقول إن النساء المطلقات أو العازبات لا يتمتعن بالخصوصية إطلاقًا. وفي سياق متصل، عند سؤالها عن التحديات التي تواجه رائدات الأعمال بشكل عام، قالت مي إن الأسرة تلعب دورًا كبيرًا في حياة النساء، فالكثير من الأسر ترغب فقط في تزويج الفتاة أو على الأقل في ضمان مستقبلها الوظيفي بعمل تقليدي، وتقلقهم ريادة الأعمال كثيرًا وبالتالي يثنون الفتيات عن اتخاذ هذا المسار. تحدثت مي أيضًا عن الأقاويل النمطية الجندرية التي توضع فيها المرأة، فمثلًا يقال إنها “عاطفية جدًا” وبالتالي لا تستطيع اتخاذ القرار، وردًا على ذلك تؤكد مي أن من تتخذ القرار اليوم في سياق المنزل هي المرأة، لارتفاع نسبة المرأة المعيلة في المجتمع المصري. حتى في الأسر التقليدية التي يعولها الرجل، تعمل معه المرأة جنبًا إلى جنب وتشارك في مصروفات المنزل. عانت مي أيضًا من التفكير القَبَلي، فعندما كان يأتي الشباب ليتطوعوا في مشروعها في الصعيد، كانوا أحيانًا يرفضوا العمل سويًا لأن والد أحدهم يعمل عاملًا تحت إشراف والد الآخر، وهكذا فإن مستوياتهم الاجتماعية مختلفة ولا يجوز لهما أن يعملا سويًا. كانت مي تقاوم مثل هذا الفكر، فتصمم على تشغيل الكل سويًا، أو أن تطلب من فتاة أن تكون هي قائدة فريق على مجموعة من الشباب.
عند سؤالها عن الفرق في الأداء بين الرجال والنساء فيما يتعلق بالعمل، قالت مي إنه من الصعب إطلاق أحكام عامة. فالعمل في مجال الإكسسوارات مثلًا لن يراه الرجال لائقًا بهم، ولكنها تؤكد أيضًا أنها كانت مهتمة بشكل خاص بالنساء. تنتقد مي الفكر الذي يقول بإن النساء أفضل من الرجال في المطبخ، لأن أكبر طباخي العالم من الرجال مثلًا. تحاول مي ألا تقع في فخ التقسيمات الجندرية هذا.
تؤكد مي أن المجتمعات النوبية في الأصل تحترم النساء، فكانت هناك أربع ملكات نوبيات في الماضي، وكانت النساء ترتدي الملابس الملونة تحت “الجرجار” النوبي وتضع الإكسسوارات التقليدية. ولكن جاءت تأثيرات التهجير السلبية لتغير من تلك العادات والتقاليد، فترتدي النساء الآن أزياء مستوردة من ثقافات أخرى، أغلبها خليجية. تقول أيضًا إن جدة والدها كانت بمثابة عمدة البلد، فكانت تتحدث العربية والإنجليزية والفرنسية، فلا يبيع أو يشتري أحدًا دون وجودها ولا يكتتب دين إلا تحت إشرافها، وهذا إن دل على شيء فيدل على مكانة المرأة النوبية في المجتمع المحلي النوبي منذ زمن. تتحدث مي أيضًا عن تأثير التهجير عمومًا على الحياة النوبية، فتقول مثلًا أن عدد الوفيات قد ارتفع عند التهجير لأن البيوت النوبية التقليدية مبنية من الطين، أما البيوت التي تم نقلهم إليها فكانت كتل أسمنتية، فلم يستطيعوا تحمل الحرارة، حتى الأطفال توفوا تأثرًا بالحر الشديد في تلك البيوت. اختفت أيضًا وتغيرت رموز ثقافية نوبية، حتى الإكسسوارات الذهب تغير شكلها، وصار أقرب للشكل الهندي من النوبي، وعقبت على ندرة من يتحدث اللغة النوبية في الجيل الجديد.
37498197(202)+
37497527(202)+
12 شارع سليمان أباظة، الدقي – الجيزة.